كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الوجه الثاني:
- أن معنى كونه {قيمًا}: أنه قيم بمصالح الخلق الدينية والدنيوية. وهذا الوجه في الحقيقية يستلزمه الوجه الأول.
واعلم أن علماء العربية اختلفوا في إعراب قوله: {قَيِّمًا} فذهب جماعة إلى أنه حال من الكتاب. وأن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، وتقريره على هذا: أنزل على عبده الكتاب في حال كونه قيمًا ولم يجعل له عوجًا. ومنع هذا الوجه من الإعراب الزمخشري في الكشاف قائلًا: إن قوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] معطوف على صلة الموصول التي هي جملة {أَنْزَلَ على عَبْدِهِ} [الكهف: 1] والمعطوف على الصلة داخل في حيز الصلة. فجعل {قَيِّمًا} حال من {الكتاب} يؤدي إلى الفصل بين الحال وصاحبها ببعض الثلة، وذلك لا يجوز.
وذهب جماعة آخرون إلى أن {قَيِّمًا} حال من {الكتاب} وا، المحذور الذي ذكره الزمخشري منتف. وذلك أنهم قالوا: إن جملة {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} ليست معطوفه على الصلة، وإنما هي جملة حالية. وقوله: {قَيِّمًا} حال بعد حال، وتقريره: أن المعنى أنزل على عبده الكتاب في حال كونه غير جاعل فيه عوجًا، وفي حال كونه قيمًا. وتعدد الحال لا إشكال فيه، والجمهورر على جواز تعدد الحال مع اتحاد عامل الحال وصاحبها، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
والحال قد يجيء ذا تعدد ** لمفرد فاعمل وغير مفرد

وسواء كان ذلك بعد العطف أو بدون عطف. فمثاله مع العطف: قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصالحين} [آل عمران: 39] ومثاله بدون عطف قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف: 150] ث الآية. وقول الشاعر:
على إذا ما جئت ليلى بخفية ** زيارة بيت الله رجلان حافيا

ونقل عن أبي الحسن بن عصفور منع تعدد الحال ما لم يكن العامل فيه صيغة التفضيل في نحو قوله: هذا بسرًا أطيب منه رطبًا. ونقل منع ذل أيضًا عن الفارسي وجماعة. وهؤلاء الذين يمنعون تععدد الحال يقولون: إن الحال الثانية إنما هي حال من الضمير المستكن في الحال الأولى. والأولى عندهم هي العامل في الثانية. فهي عندهم أحوال متداخلة، أو يجعلون الثانية نعتًا للأولى وممن اختار أن جملة {ولم يجعل} حالية، وأن {قّيِّمًا} حال بعد حال الأصفهاني.
وذهب بعضهم إلى أن قوله: {قَيِّمًا} بدل من قوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} لأن انتفاء العوج عنه هو معنة كونه قيمًا.
وعزا القول الرازي وأبو حيان لصاحب حل القعد، وعليه فهو بدل مفرد من جملة.
كما قالوا: في عرفت زيدًا أبو من. أنه بدل جملة من مفرد. وفي جواز ذلك خلاف عند علماء العربية.
وزعم قوم أن {قَيِّمًا} حال من الضمير المجرور في قوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} واختار الزمخشري وغيره أن {قَيَّمًا} منصوب بفعل محذوف، وتقديره: ولم يجعل له عوجًا وجعله قّيِّمًا، وحذف ناصب الفضلة إذا دل عليه المقام جائز. كما قال في الخلاصة:
ويحذف الناصبها إن علما ** وقد يكون حذفه ملتزمًا

وأقرب أوجه الإعراب في قوله: {قَيِّمًا} أنه منصوب بمحذوف، أو حال ثانية من {الكتاب} والله تعالى أعلم.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} اللام فيه متعلقة ب {أَنْزَلَ} [الكهف: 1] وقال الحوفي: هي متعلقة بقوله: {قَيِّمًا} والأول هو الظاهر. والإنذار: الإعلام المقترن بتخويف وتهديد. فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذار. والإنذار يتعدى إلى مفعولين، كما في وقوله تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تلظى} [الليل: 14]، وقوله: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ: 40] الآية.
وفي أول هذه السورة الكريمة كرر تعالى الإنذار، فحذف في الموضع الأول مفعول الإنذار الأول، وحذف في الثاني مفعول الثاني، فصار المذكور دليلًا على المحذوف في الموضعين. وتقدير المفعول الأول المحذوف في الموضع الأول: لينذر الذين كفروا بأسًا شديدًا من لدنه. وتقدير المفعول الثاني المحذوف في الموضع الثاني: وينذر الذين الوا اتخذ الله ولدًا باسًا شديدًا من لدنه.
وقد أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى أن هذا القرآن العظم تخويف وتهديد للكافرين. وبشارة للمؤمنين المتقين. إذ قال في تخويف الكفرة به {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} وقال: {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} الآية. وقال في بشارته للمؤمنين: {وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} الآية.
وهذا الذي ذكره هنا من كونه إنذارًا لهؤلاء وبشارة لهؤلاء بينه في مواضع أخر كقوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} [مريم: 97]، وقوله: {المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 1-2].
وقد أوضحنا هذا المبحث في أول سورة: الأعراف. وأوضحنا لك المعاني التي ورد بها الإنذار في القرآن. والبأس الشديد الذي أنذرهم إياه: هو العذاب الأليم في الدنيا والآخرة والبشارة: الخبر بما يسر.
وقد تطلق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7] ومنه قوله الشاعر:
وبشرتني يا سعد أن أحبتي ** جفوني وقالوا الود موعده الحشر

وقول الآخر:
يبشرني الغراب ببين أهلي ** فقلت له ثكلتك من بشير

والتحقيق: أن إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء، أسلوب من أساليب اللغة العربية. ومعلوم أن علماء البلاغة يجعلون مثل ذلك مجازًا، ويسمونه استعارة عنادية، ويقسمونها إلى تهكمية وتمليحية كما هو معروف في محله.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {الذين يَعْمَلُونَ الصالحات} بينت المراد به آيات أخر، فدلت على أن العمل لا يكون صالحًا إلا بثلاثة أمور:
الأول- أن يكون نطابقًا لما جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم. فكل عمل مخالف لما جاء به صلوات الله وسلامه عليه فليس بصالح، بل هو باطل، قال تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] الآية، وقال: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] وقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران: 31] الآية، وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} [الشورى: 21] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
الثاني- أن يكون العامل مخلصًا في عمله لله فيما بينه وبين الله، قال تعالى: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5] الآية، وقال: {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدين وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} [الزمر: 11-15] إلى غير ذلك من الآيات.
الثالث- أن يكون العمل مبنيًا على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة، لأن العلم كالسقف، والعقيدة كالأساس، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل: 97]. الآية، فجعل الإيمان قيدًا في ذلك.
وبين مفهوم هذا القيد في آيات كثيرة، كقوله في أعمال غير المؤمنين: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]، وقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} [النور: 39] الآية، وقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح} [إبراهيم: 18] الآية، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.
والتحقيق: أن مفرد الصالحات في قوله: {يعملون الصالحات}، وقوله: {وَعَمِلُواْ الصالحات} [البقرة: 25] ونحو ذلك- أنه صالحة، وأن العرب تطلق لفظة الصالحة على الفعلة الطيبة. كإطلاق اسم الجنس لتناسى الوصيفة، كما شاع ذلك الإطلاق في الحسنة مرادًا بها الفعلة الطيبة.
ومن إطلاق العرب لفظة الصالحة على ذلك قول ابي العاص بن الربيع في زوجه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بنت الأمين جزاك الله صالحة ** وكل بعل سيثنى بالذي علما

وقول الحطيئة:
كيف الهجاء ولا تنفك صالحة ** من آل لأم بظهر الغيب تأتيني

وسئل إعرابي عن الحب فقال:
الحب مشغله عن كل صالحة ** وسكرة الحب تنفي سكرة الوسن

وقوله في هذه الآية الكريمة: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} أي وليبشرهم بأن لهم أجرًا حسنًا. الأجر: جزاء العمل، وجزاء عملهم المعبر عنه هنا بالأجرة: هو الجنة. ولذا قال: {مَّاكِثِينَ فِيهِ} [الكهف: 3] وذكر الضمير في قوله: {فِيهِ} لأنه راجع إلى الأجر وهو مذكر، وإن كان المراد بالأجر الجنة: ووصف أجرهم هنا بأنه حسن، وبين أوجه حسنه في آيات كثيرة. كقوله: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة: 13-16] إلى قوله- {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} [الواقعة: 39-40]، وكقوله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا معلومة.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} أي خالدين فيه بلا انقطاع.
وقد بين هذا المعنى في مواضع أخر كثيرة، كقوله: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] أي غير مقطوع، وقوله: {إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [ص: 54] أي ما له من انقطاع وانتهاء، وقوله: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 96]، وقوله: {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} [الأعلى: 17] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في الآية الكريمة: {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} أي ينذرهم بأسًا شديدًا {مِّن لَّدُنْهُ} [الكهف: 2] أي من عنده كما تقدم.
وهذا من عطف الخاص على العام، لأنه قوله: {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} [الكهف: 2] شامب للذين قالوا اتخذ الله ولدًا، ولغيرهم من سائر الكفار.
وقد تقرر في فن المهاني: أن عطف الخاص على العام إذا كان الخاص يمتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسة أو قبيحة- من الإطناب المقبول، تنزيلًا للتغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات.
ومثاله في الممتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة قوله تعالى: {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98] الآية، وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7].
وثاله في الممتاز بصفات قبيحة الآية التي نحن بصددها، فإن {الذين قالوا اتخذ الله ولدًا} امتازوا عن غيرهم بفرية شنعاء. ولذا ساغ عطفهم على اللفظ الشامل لهم ولغيرهم.
والآيات الدالة على شدة عظم فريتهم كثيرة جدًا. كقوله هنا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5] الآية، وكقوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا أَن دَعَوْا للرحمن وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 88-92]، وقوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء: 40] والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.
وقد قدمنا أن القرآن بين أن الذين نسبوا لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا ثلاثة أصناف من الناس: اليهود، والنصارى، قال تعالى: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 30] الآية. والصنف الثالث مشركو العرب. كما قال تعالى عنهم: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]، والآيات بنحوها كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ} يعني أن ما نسبوه له جلَّ وعلا من اتخاذ الولد لا علم لهم به. لأنه مستحيل. والآية تدل دلالة واضحة على أن نفي الفعل لا يدل على إمكانه. ومن الآيات الدالةه على ذلك قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] لأن ظلمهم لربنا وحصول العلم لهم باتخاذه الولد- كل ذلك مستحيل عقلًا. فنفيه لا يدل على إمكانه. ومن هذا القبيل قول المنطقيين: السالبة لا تقضى وجود لموضوع، كما بيناه في غير هذا الموضع.
وما نفاه عنهم وعن آبائهم من العلم باتخاذه الولد سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا- بينه في مواضع أخر، كقوله: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100]، وقوله في آبائهم: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} يعني أن ما قالوه بأقواههم من أن الله اتخذ ولدًا امر كبير عظيم. كما بينا الآيات الدالة على عظمه آنفًا.
كقوله: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء: 40]، وقوله: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا} [مريم: 90] الآية. وكفى بهذا كبرًا وعظمًا.
وقال بعض علماء العربية: إن قوله: {كبرت كلمة} معناه التعجب. فهو بمعن ما أكبرها كلمة. أو أكبر بها كلمة.
والمقرر في علم النحو: أن فعل بالضم تصاغ لإنشاء الذم والمدحن فتكون من باب نعم وبئس، ونه قوله تعالى: {كبرت كلمة} الآية. وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله:
واجعل كبئس ساء واجعل فعلًا ** من ذي ثلاثة كنعم مسجلا

وقوله: كنعم أي اجعله من باب نعم فيشمل بئس. وإذا تقرر ذلك ففاعل كبر ضمير محذوف و{كلمة} نكرة مميزة للضمير المحذوف. على حد قوله في الخلاصة.
ويرفعان مضمرًا يفسره ** مميز كنعم قومًا معشره

والمخصوص بالذم محذوف، والتقدير: كبرت هي كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الني فاهوا بها، وهي قولهم: اتخذ الله ولدًا، وأعرب بعضهم {كلمة} بأنها حال، أي كبت فريتهم في حال كونها كلمة خارجة من أفواههم. وليس بشيء.
وقال ابن كثير في تفسيره {تخرج من أفواهههم} أي ليس لها مستند سوى قولهم ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، ولذا قال: {إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا}.
وهذا المعنى الذي ذكره ابن كثير له شواهد في القرآن. كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167] ونحو ذلك من الآيات.
والكذب مخالفة الخبر للواقع على أصح الأقوال.